هي أول حاسة تعمل لدى الطفل بعد خروجه من رحم أمه، كما أنها الحاسة الوحيدة التى تعمل عندما يدخل الشخص في بحر النوم، في وقت تسكن فيه كل الحواس، وهى تلك الحاسة التى تضمن لك التواصل مع من يحيط بك وفهم مجريات الأحداث من حولك، إنها حاسة السمع، وأداتها الأذن . هندسة وراثية
ولكن مما تتألف الأذن، وكيف يمكنها ترجمة الأصوات الخارجية إلى كلمات محددة مفهومة؟ يكمن السر في تكامل الأجزاء الثلاث الرئيسية للأذن: الأذن الداخلية والأذن الوسطى، والأذن الخارجية، حيث تمر الموجات الصوتية عبر هذه الأخيرة، مسببة حدوث اهتزازات في طبلة الأذن. تقوم طبلة الأذن وثلاثة عظام صغيرة تقع داخل الأذن الوسطى بتضخيم تلك الاهتزازات أثناء انتقالها إلى الأذن الداخلية، وهناك، تمر خلال سائل موجود داخل ما يعرف بالقوقعة. ترتبط بالخلايا العصبية الموجودة في القوقعة آلاف الشعيرات الصغيرة التي تساعد على ترجمة الاهتزازات الصوتية إلى إشارات كهربية تنقل إلى المخ الذى يقوم بتحويلها إلى أصوات محددة ومفهومة. واليوم أضافت القوقعة إلى دورها في تعزيز حاسة السمع، دورًا جديدًا مهمًا إذ أصبح من الممكن توظيفها فى التمييز بين الجنسين.
ففي تعاون علمي بين فرنسا وجنوب أفريقيا تمكن فريق من العلماء من نشر دراسة جديدة في دورية نيتشر، استطاعوا خلالها اكتشاف أول طريقة علمية موثوقة لتحديد الجنس بما يشمل الأطفال، وكذلك البقايا الأحفورية التي غالباً ما تفتقر الى المكونات الحية (DNA والبروتين). حيث اكتشفوا أن الشكل الحلزوني لعظام «قوقعة الأذن» غير متشابه بين الذكور والإناث، وأن هنلك تمايز بينهما يبدأ من اللحظات الأولي لولوج المولود إلي هذا العالم، كما لاحظوا أنه يمكن رؤية هذا التمايز بوضوح عند قمة الإلتفاف الحلزوني الذي يميز «القوقعة».
فى تصريح خاص لـ”للعلم” يقول جوزيه براجا، الباحث الأول فى هذه الدراسة ورئيس قسم الأنثروبولوجي فى جامعة تولوز بفرنسا: إلي الوقت الذي نشرت فيه هذه الدراسة لم يكن بالإمكان تحديد جنس الإطفال اعتماداً فقط على هياكلهم العظمية، على خلاف البالغين الذين يمكن تحديد جنسهم من خلال هيكلهم العظمي اعتماداً على عظام الحوض.
ويضيف “براجا”: من خلال انتاج صور ثلاثية الإبعاد باستخدام التصوير بالأشعة المقطعية، استطعنا ان نقدم للعالم اول طريقة موثوقة لتحديد الجنس من خلال العظام فقط، وأعنى بكلمة “موثوقة” أنها تتجاوز فى دقة صحتها نسبة 90 %.
تجارب عابرة للقارات
لم تقف الحدود المكانية عائقاً أمام تواصل العلماء المشاركون فى هذه الدراسة، حيث سطروا مثالاً رائعاً في التواصل العلمي المثمر. فمن أقصي جنوب القارة الأفريقية إلى قلب القارة الأوروبية سافرت تلك التجارب العلمية حاملة فى طياتها اكتشافاً علمياً لم يعرفه العلم من قبل.
ضم الفريق المشارك فى هذه الدراسة عشرة باحثين ينتمون إلي عدة منظمات علمية وأكاديمية مختلفة تتبع دولتى فرنسا وجنوب أفريقيا. الفريد من نوعه بخصوص هذا الفريق أنه تضمن علماء متخصصون في الطب والتشريح وعلماء أشعة مقطعية وتصوير، بالإضافة إلي علماء رياضيات.
ولأن ذلك الفريق يؤمن بأن النتائج الإستثنائية تحتاج إلي تجارب استثنائية، فقد أدرجوا فى هذه الدراسة أكثر من مائة وست عشرة (116) تجربة، حتى يتمكنوا من إثبات نتائجهم علمياً بطريقة لا يراودها شك.
أجري الفريق تجاربهم على قسمين، البالغين (94 بالغ) والأطفال (22 طفل) من كلا الدولتين المذكورتين آنفاً. شملت التجارب الفرنسية 32 أنثي و 22 ذكر، بينما شملت التجارب الجنوب أفريقية 18 أنثي (15 من أصل أفريقي و 3 من أصل أوروبي) و 22 ذكر (21 من أصل أفريقي و 1 من أصل أوروبي)، بإجمالي 54 بالغ فرنسي و40 بالغ جنوب أفريقي.
لكل شخص بالغ (أعمارهم تتجاوز 18 ربيعاً) تم عمل اشعة مقطعية (CT scan) بجودة عالية تسمح بالدراسة الدقيقة لعظام الأذن، جدير بالذكر أن عمليات التصوير بالأشعة المقطعية للمرضي الفرنسين كانت قد أجريت بين عامي 2012 و 2014، فيما تم إجراء التصوير بالأشعة المقطعية للمرضي الجنوب أفريقيين فى عام 2016.
أما فيما يتعلق بالأطفال فقد درس الفريق 22 جمجمة لأطفال فرنسيين (تتراوح أعمارهم من سن الولادة وحتى 10 سنوات) ماتوا جميعاً قبل عام 1918 وكانوا قد تم حفظ أجسادهم بغرض إجراء البحوث العلمية عليهم، وبعد حصولهم على تصريح بدراسة هذه العينات تمكن الفريق من إجراء التصوير الدقيق بالأشعة المقطعية (Micro-CT scan) لتلك العينات، من أجل عمل الاختبارات اللازمة ومقارنة النتائج.
وكانت النتائج مذهلة حيث تمكن العلماء من تحديد نوع الجنس فى التجارب المذكورة بنسبة نجاح تصل إلى 99 % كما استطاع اعضاء الفريق من علماء الرياضيات والإحصاء من رسم اشكال بيانية اعتماداً على الجداول الإحصائية للتجارب، بحيث يمكن من خلال هذه الأشكال البيانية التمييز بسهولة بين كلا الجنسين.
في تعليقها على نتائج الدراسة، قالت غادة وجيه، أخصائية أمراض السمع والاتزان والباحثة غير المشاركة فى الدراسة، فى تصريح خاص لـ”للعلم”: إنها دراسة أكثر من رائعة، فمن المثير للغاية تطوير وتوظيف العديد من الأساليب إما إشعاعيًا أو إحصائيًا لاستخدام قوقعة الأذن في التمييز بين الجنسين.
تضيف “وجيه”: من الرائع فى هذه الدراسة تمكن الباحثين من الوصول إلى قيم الدقة المذكورة في الكشف عن الجنس. وأعتقد أنه من الجيد تطبيق هذه التجارب على المزيد من الحالات لإجراء تقييم أفضل.
وفي تعليقه على مشاركة فريق من علماء الرياضيات فى إخراج هذه الدراسة تحدث شفيق سمير، أستاذ الرياضيات المساعد فى جامعة كليرمون أوفيرني بفرنسا لـ”للعلم” قائلاً: لقد استخدمنا العديد من التقنيات الإحصائية لمقارنة نتائج التجارب على الاشخاص المختلفين وإخراج أفضل النتائج التى تسهم فى تدعيم وتقوية نتائج الدراسة.
ورغم ما للدراسة من صدى طيب بين الاوساط الطبية وعلماء الاثار والحفريات، الا انها وعلى حد وصف “وجيه” قد طرحت عدة تساؤلات: ماذا لو يتم اجراء مقارنات تشريحية بين عظام القوقعة فى الأذن اليسري ومثيلتها فى اليمنى، خاصة وأن الباحثين فى هذه الدراسة استخدموا فقط قوقعة الأذن اليسري.
الطرق التقليدية للتمييز بين الجنسين
من الصعب تعيين الجنس من عظام من كانوا دون سن البلوغ الفسيولوجي، إذ تتسع رقعة الفروق الجنسية في عظام البشر عقب البلوغ مما يسهل التفريق بين عظام الذكر والأنثى في حالة عظام البالغين، ومع وجود عظام كاملة، كعظام الفخذين بنسبة يمكن أن تصل إلي 80 % على سبيل المثال، يمكن تحديد الجنس، ويمكن تبيان ذلك أكثر بالنظر إلى عظام الحوض مثلًا. فعظام الحوض في الأنثى معدة لاستيعاب الجنين وكذلك لعملية الوضع عبر المسالك التناسلية، ولذا فيجب أن يكون أكثر اتساعاً في مدخله ومخرجه مما هو عليه الحال عند الذكر، وتكون الحرقفة (أحد أجزاء الورك) عند الرجل مقعرةً نسبياً وعرفها متجها للأعلى أو معقوفاً نسبياً إلى الداخل، ومدخل الحوض الحقيقي عند المرأة واسع ودائري الشكل، بينما هو ضيق مثلث الشكل عند الرجل، وتكون الزاوية تحت العانة واسعة منفرجة عند الأنثى، وضيقة حادة عند الذكر.
سبر أغوار الماضي
تمثل الدراسة الحالية نقلة نوعية بكل ما للكلمة من معنى فيما يخص علم الحفريات، إذ أن هذا الإكتشاف سيمكن العلماء من تحديد جنس البقايا البشرية، ليس فقط اعتمادا على عظام الحوض التى نادراً ما يتم ايجادها فى السجل الأحفوري، ولكن اعتماداً على عظام الأذن والتى تعد العظام الأكثر كثافة بين كل العظام المعروفة، ولذا فإن احتمالية ونسب وجودها فى السجل الأحفوري كبيرة جداً مقارنة بغيرها من العظام.
وفي تعقيبها على هذا الجانب من نتائج الدراسة، تقول «شروق الأشقر» – الباحثة بمركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية، والباحثة غير المشاركة فى الدراسة – فى تصريح خاص لـ”للعلم”: يتم تحديد جنس الانسان البالغ عادة في الحفريات بطرق عدة منها عظام الحوض و الحمض النووى (هذا ان عثر عليهما). اما في الاطفال فالأمر مختلف تماما، فلا نستطيع تحديد جنس الطفل سوى من حمضه النووى ومع ندرة حفظ الحمض النووى أصبح تحديد الجنس في هذه الحالة درب من المستحيل، إلى أن جاءت هذه الدراسة التى فتحت بدورها نافذه جديدة و فريدة من نوعها وغاية في الأهمية.
وتضيف “الأشقر”:- لتحديد الجنس اعتمدت الدراسة علي أثقل وأكثر العظام صلابة و كثافة في هياكلنا العظمية وهى عظام الأذن الداخلية (القوقعة). فاختلاف شكل الالتفاف الحلزونى للقوقعة يمثل علامة فارقة للتمييز بين الذكر والأنثى منذ الولادة ولا تتغير خلال مراحل العمر المختلفة، مشددة على أنه ليس فقط علم الحفريات هو وحده المستفيد من وراء هذه الورقة العلمية الفريدة من نوعها، بل ان قائمة المستفيدين تشمل علوم الآثار والمصريات.
صغار الفراعنة
لطالما أبهرت الحضارة المصرية القديمة العالم، ولا سيما علم التحنيط الذي تُعَد أسراره من عبقريات المصري القديم، ويعد التحنيط والمومياوات من أبرز معالم الفراعنة. وتأتى الدراسة الحالية لتسهم فى حل بعض الألغاز المتعلقة بهذه الحضارة القديمة.
إذ يكمل “خوسيه براجا” حديثه لـ”للعلم” قائلاً:- لو استطعنا ان نحصل على تصوير بالاشعة المقطعية بدقة عالية لجماجم المومياوات سنتمكن حينها بسهولة من معرفة جنس المومياء وربما حُلت بعض ألغاز الحضارة الفرعونية.
وبهذا الصدد وفى حديثه لـ “للعلم” يقول “مارك والتون” أستاذ المواد بكلية ماكورميك للهندسة بجامعة نورث ويسترن بأمريكا والباحث غير المشارك فى الدراسة:- نمتلك فى جامعة نورث ويسترن في شيكاغو ما يقرب من 100 مومياء مصرية اكتشفت في عام 1911 بعضها لأطفال لم يبلغ أغلبهم عامهم العاشر وكنا نحدد جنسهم فى الغالب اعتماداً على تحنيط الجسم بالكامل، أو الصور المرسومة الموضوعة فوق المومياوات.
ويضيف “والتون” :- من أبرز تلك المومياوات كانت مومياء طفلة تكاد تبلغ الخامسة من عمرها توفيت قبل 1500 عام تعرفنا على جنسها فقط من خلال رسومات رسمت على الطريقة الرومانية في تصوير الموتى وصاحبت عملية تحنيطها على الطريقة المصرية وتتميز هذه الرسومات بإظهار تفاصيل دقيقة غير عادية لملامح الفتاة. اليوم ومن خلال هذه الدراسة يمكننا معرفة جنس كل هؤلاء الفراعنة الصغار دون الحاجة الى صورهم، مشددًا على أن هذه الدراسة فى مجملها تؤكد على أن التقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم سيغير من منظورنا للعديد من المعتقدات والمسلمات العلمية.
تعليقات
إرسال تعليق