الحكمة في ذكر إيتاء الحكمة لداوود بعد ذكر قتله لجالوت
أنعم الله جلا وعلا على عبده داود عليه السلام بنعم كثيرة، ذُكر بعض منها في عدة مواضع ومنها ما جاء في قصة سيدنا داوود مع الملأ من بني إسرائيل وطالوت وجالوت، بالإضافة إلى مواضع أخرى، منها قوله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ] [ص: 17-20]، وبيّن علماء التفسير أنّ الله الله جل وعلا وهب لعبده داوود الملك، أي السلطان والحكمة، وهي النبوة، ولم تكن تجمع لأحد من قبله، بعد ما قتل جالوت، فقد وعده طالوت أن يزوجه ابنته، ويشركه في ملكه، إذا قتل جالوت، فأوفى له بوعده، وآل إليه الحكم بعد موت طالوت.
ماذا كان يعمل النبي داود
هناك العديد من الآيات والأحاديث التي تشجع على الكسب والجهود على الأرض، وكل هذا ليس فقط لكسب المال وجمعه، ولكن ليوقف الإنسان وجهه عنه، ويصل به رحمه، ويستعين به على طاعة ربِّه، وقد سمَّى تعالى جل علاه المال خيراً في عدة موضع من القرآن الكريم كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) ومدحه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ) – رواه أحمد بإسناد صحيح، وقال سعيد بن المسيب : “لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حلِّه ، يكفُّ به وجهه عن الناس، ويصل به رحمه، ويعطي حقه” والمال له فوائد عديدة؛ فالحج والجهاد كانا بالمال، وهكذا تحقق التحرر وبناء المساجد والجسور، ومعها جاءت صفة الكرم والكرم التي بلغ بها الصالحون أعلى درجات، التي منّ الله عليهم بها في أعلى الغرف وقال بعض السلف الصالح : “اللهم إني من عبادك الذين لا يصلحهم إلا الغنى”.
ولقد تعددت حرف ومهن الانبياء والرسل لنيل رضى الرضوان فكما جاء في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ)، فَقَالَ أَصْحَابُهُ : وَأَنْتَ ؟ فَقَالَ : (نَعَمْ ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ) رواه البخاري ، ولقد عملَ نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم بالتجارة أيضًا مع عمِّه أبي طالب ثم في أموال زوجه خديجة رضي الله عنها، كما هو مشهور في السيرة، وقال جل علاه في كتابه العزيز عن عمل داود عليه السلام بقوله تعالى : (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) الأنبياء /80، وعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنِ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) رواه البخاري، ومن معجزات سيدنا داوود التي وهبها لها الله جلا وعلا أنه كان نبياً وملكاً، فقد وهبة الله تعالى الملك والحكمة وكان يفصل في الخصام، كما جاء في قصة سيدنا داود والنعاج، حيث قال تعالى: “إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * “.
وكان عليه السلام يأكل من عمل يده، فكان يصنع دروعًا من الحديد ويبيعها، وكان رعي الأغنام هو الحرفة التي عمل بها جميع الانبياء وبيّن الدين الإسلامي مبدأ السعي لطلب الرزق، فعن ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : “كَانَ “ذُو الْمَجَازِ”، و”عُكَاظٌ” مَتْجَرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ” رواه البخاري، كما أجمع الفقهاء والمحدثون على ذلك، فما يظنه البعض من أن الإسلام لا يحث على الكسب ، والسعي، والعمل، فهو غير صحيح، وقد يظن البعض أيضًا أنّ المهن دنيئة كالنجارة، والرعي، والحدادة : فغير صحيح، فقد ثبتت هذه المهن، والأعمال لخيرة خلق الله، وصفوتهم وهم الأنبياء، والرسل، عليهم السلام، ويحفز الإسلام الشباب على ذلك، وأن يكون الإنسان في أفضل مكانه، وأكمل حال، بل وأن يطلب الأحسن، ويسعى لتحصيله، بشرط أن لا يؤثر ذلك على عقيدته، واستقامته، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ) رواه مسلم، وقد نهى الإسلام الكسب من المهن المشبوهه، وأمر المسلم أن يمنتنع عنها، كما جاء في الحديث عَنِ ابْنِ مُحَيِّصَةََ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي إِجَارَةِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ عَنْهَا فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَأْذِنُهُ حَتَّى قَالَ : (اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ) رواه أبو داودوالترمذي وحسَّنه.
حكم صوم الأيام الفاضلة لمن يصوم صوم داود
قد جاء النص مؤكدًا أن صوم داود عليه السلام هو أحب و أفضل الصيام إلى الله تعالى، ولم يسمح النبي محمد صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو أن يكثر عليه، وهذا تصريح في أن الزيادة عليه غير مستحبة، وأن والاستمرار على هذا النوع من الصيام يغني صاحبه عن الزيادة والتكلف ويجعل الزيادة مفضولة غير مستحبة، فعن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: “أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا”رواه البخاري، ومسلم .
قَالَ: فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ؛ قُلْتُ:” إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ”، فقَالَ: ” فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ” … قُلْتُ:” إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ”، فقَالَ: ” فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ “، فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ له النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ” رواه البخاري، ومسلم.
وما يترتب على ذلك أنّ الزيادة على هذا النوع من الصيام تكون نوعين، أولًا الزيادات التي تتسم بتغير شكل وصورة الصيام؛ ويشتمل هذا النوع من الصيام على: صيام الأيام البيض، و صيام الإثنين والخميس أيضًا، فصيام النبي داود عليه السلام يٌكتفى به، ومضمون الحديث يٌبيّن أنّه لا يستحب الزيادة على صيام غير ذلك، ولو كانت الزيادة يوم الإثنين، أو الخميس ؛ لأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال عن صيام داود :”لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ”.
ثانيًا: الزيادات التي لا تغير شكل صيام النبي داود، وهي أيام نادرة في السَّنة مثل صيام عرفة وعاشوراء، مما يدل على أن صيام تلك الأيام، رغبةً في نيل ثوابها ولا يخرج صاحبها من محيط ودائرة الأفضلية، لأنها نادرة، ولا سلطة لها، ولا أثر لها في شكل صيام من يقوم بالصيام يومًا ويفطر يومًا.
مكانة العمل في الإسلام
إذا ما تتبعت شجرة الأنبياء والرسل، واخترت اسما من أسماء الأنبياء وقرأت سير و أسماء الأنبياء ووظائفهم ستجد أن جميعهم كان لديهم وظائف كسائر البشر بجانب وظيفتهم الأساسية وهي الدعوة إلى عبادة الله وترك ما غير ذلك، وهذا ما دل عليه حديث أبو هريرة عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حيث قال : (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ)، فَقَالَ أَصْحَابُهُ : وَأَنْتَ ؟ فَقَالَ : (نَعَمْ ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ) رواه البخاري.
فلكل نبي بعثه الله وظيفة عمل بها وتميز فيها، فلم يكن العمل طوال أعمار الأنبياء هدفه الكسب المادي فقط، ولكنه وسيلة لإطعامهم وإطعام ذويهم بجانب وظيفتهم الأساسية وهي الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا إن دل فإنما يدل على أهمية العمل ومنزلته الرفيعه، حيث أنه يعتبر امتثال لأمر الله، فقال تعالى :”فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً”. صدق الله العظيم
تعليقات
إرسال تعليق