عندما اقتحم حشد من المتمردين الأميركيين مبنى الكونغرس في واشنطن، يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021، سادت موجتان من الأحاسيس في سياق السجالات العامة التي انطلقت حول الحدث. الموجة الأولى مثلت ذهولاً. أما الثانية فقد شكلت انطباعاً يشير إلى أن ما حصل ليس سوى تتويج لما تراكم على مدى السنوات الأربع الماضية. بيد أن التمرد الذي حصل جاء صادماً ودموياً. وراحت صوره تنتشر صورة إثر أخرى. كما أظهرت المشاهد من الكونغرس نوافذ محطمة، وصدامات مع الشرطة. والتقطت إحدى الصور رجلاً مبتهجاً يحمل منبر رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي. وجلس رجل آخر في كرسي بمكتب بيلوسي، ماداً ساقه كي يريحها على طاولتها.
لكن، وفي حين كان الحشد يعبث بمقر السلطة التشريعية الأميركية، كان من الصعب تجاوز الانطباع بأن ما يدور يمثل تتويجاً لخطاب صلف بفئويته انتهجه البيت الأبيض. بالتالي، فإن ما يحصل جاء ذروة لعقود من شعور الاستعلاء عند المتعصبين البيض. وبالنسبة لتاليا لافين، الكاتبة والباحثة، ومؤلفة كتاب "أمراء حرب الثقافة: رحلتي في الشبكة المظلمة للاستعلاء العرقي الأبيض" Culture Warlords: My Journey Into the Dark Web of White Supremacy، فإن بعض الصور الواردة من مبنى الكونغرس (أو الكابيتول) بدا مألوفاً على نحو غريب، إذ إن جزءاً من أبحاثها ركز على رواية "يوميات تيرنير" The Turner Diaries، المنشورة سنة 1978 بقلم الكاتب المتعصب الأبيض وأحد النازيين الجدد، ويليام لوثر بيرس الثالث William Luther Pierce III.
رواية "يوميات تيرنير" هذه، التي وصفتها "رابطة مكافحة التشهير والعداء للسامية" Anti-Defamation League بأنها كتاب "فظ، وعنيف، ومروع، وكاره للنساء، وعنصري، ومُعادٍ للسامية"، تصور انقلاباً عنيفاً ضد الحكومة الأميركية. وقد غدت تلك الرواية منذ ظهورها معيناً لأفكار دوائر وجماعات المتعصبين البيض، إذ ألهمت ما تصفه لافين في كتابها بـ"المقدار الهائل والاستثنائي للعنف". ومن أشهر الوقائع التي تحيل إلى هذا العنف، هي تلك المقتطفات من رواية "يوميات تيرنير" التي وجدت في السيارة التي فر بها تيموثي ماكفاي، أحد الإرهابيين الأميركيين الذين نفذوا تفجير مدينة أوكلاهوما سنة 1995، الذي راح ضحيته 168 شخصاً.
وما لبثت الرواية المذكورة أن حظيت في الآونة الأخيرة باهتمام متجدد إثر التمرد واقتحام مبنى الكونغرس. ووفق لافين، فإنه ليس ثمة بالضرورة "علاقة مباشرة" بين أحداث الرواية وبين وقائع ذلك اليوم (6 يناير 2021)، لكن هناك بعض العناصر في عملية اقتحام الكونغرس، تستحضر "يوميات تيرنير" على نحو واضح. تقول لافين "المثل على ذلك، كتابة "اقتلوا الإعلام" على باب داخل الكابيتول". وتردف الباحثة: "قتل الصحافيين يمثل رغبة جامحة في "يوميات تيرنير". والأمر ذاته يقال بالنسبة لفكرة "الشنق الجماعي" التي تشكل "جزءاً بالغ الأهمية من سردية (يوميات تيرنير)"، وذاك أوحت به واقعة نصب مشنقة خارج مبنى الكابيتول، وفق ما تذكر لافين.
إلى هذا، فإن رواية "يوميات تيرنير" ليست أبداً الكتاب الوحيد الذي يجري ربطه بأحداث عنف في الحياة الواقعية، إذ إن كتاب "حنق" Rage، لـستيفن كينغ، و"الفزاعة في حقل الشوفان" The Catcher in the Rye، لـجي دي سالنجر، يشكلان مثلين اثنين من كتب عديدة. فإن الخيط بين الاحداث التي تسردها رواية بيرس، والأفعال التي كأنها مستوحاة منها، يبدو خيطاً صادماً بمتانته. كون هذه الرواية (يوميات تيرنير) في جوهرها ليست فناً أو أدباً، بل بيان مكتوب بأسلوب رواية تشويق، أو ما يمكن اعتباره "نسخة اليمين المتطرف لفيلم من أفلام استديوهات مارفيل Marvel movies (المشهورة بأفلام الأبطال الخارقين)، وفق رأي لافين.
وعلى الرغم من ذاك كله ظلت رواية "يوميات تيرنير" متوفرة على موقع "أمازون" حتى الآونة الأخيرة. ولم يقدم الموقع المذكور على سحبها من رفوفه الرقمية، إلا إثر واقعة التمرد واقتحام الكابيتول، وفق ما أورد موقع ذا فيرج The Verge الإخباري في شهر يناير الماضي. وقبل مدة من هذا، تحديداً سنة 1996، قرر الكاتب والناشر لايل ستيوارت أن تنشر شركته "باريكايد بوكس" Barricade Books، وتوزع الرواية (يوميات تيرنير). تلك خطوة سوغها لصحيفة "واشنطن بوست" بقوله: "أنا مهووس تجاه بعض الأشياء القليلة في الحياة... كما أنني شديد الإيمان بوجوب السماح لأي كان بنشر أكثر الأعمال تنفيراً وإشعالاً للحنق".
في هذا الإطار، ووفق موسوعة المعلومات العامة الشهيرة "إنسايكلوبيديا بريتانيكا" Encyclopaedia Britannica، فقد بيع نصف مليون نسخة من الكتاب (يوميات تيرنير) حتى سنة 2000. وبالاستناد إلى بحث لافين، تعتبر نسخة "بي دي أف" من هذه الرواية من المقتنيات "الطوطمية" في أوساط المتعصبين البيض، إذ توازي رمزاً نصبياً. وبغض النظر إن كان ستيوارت "مهووساً" أم لا، يبقى السؤال الذي ينبغي طرحه هو التالي: ألم يكن من الأفضل تفادي رواج تلك الرواية؟
بالنسبة للباحثة لافين ثمة أهمية في جعل الحضور التجاري للكتاب المذكور أكثر صعوبة. تقول لافين: "كلما قمنا باتخاذ خطوة في سياق جعل حضور أي دعوة متطرفة، أو أي جماعة متعصبة، أو أي متحدث باسمها، أكثر صعوبة، كلما ساهمنا في ردع هؤلاء المتعصبين. حتى لو ردعنا واحداً منهم فقط، فإن للأمر أهميته"، لكنني حين طرحت فكرة فرض حظر حكومي على هذه المواد، فإن لافين – "غير المناصرة أبداً لحرية التعبير المطلقة" – عبرت عن خشيتها من العواقب. وقالت في هذا الصدد: "أعتقد أننا آذينا أنفسنا حين اعتبرنا أن أجهزة فرض القانون في الولايات المتحدة حيادية بموقفها السياسي. وكل قانون سيحاول فرض حظر على المواد المتطرفة قد يلقي بتأثيره الأكبر وغير المتوازن على اليسار". من هنا، فإن لافين تؤثر على فرض قوانين المنع، اعتماد "استجابة اجتماعية عامة" تجعل من "بيع الكراهية تجارة غير مربحة".إن للكتب وقعها وتأثيرها على الحياة الواقعية، لكن هذه الأخيرة تنعكس بدورها على الكتب أيضاً، إذ قبل عقدي سنوات من توقف أمازون عن بيع "يوميات تيرنير"، اختفت رواية أخرى تماماً عن الانظار، لكن هذه المرة بإرادة مؤلفها. ففي سنة 1977، نشر ستيفن كينغ روايته "حنق" Rage، التي تروي قصة "فتى مأزوم" يأخذ معه "سلاحاً إلى المدرسة، ويقتل أستاذ مادة الرياضيات، ويأخذ رفاق صفه رهائن". وفي أعوام التسعينيات انتبه كينغ إلى حادثتي إطلاق نار في مدرستين ثانويتين بدا أن منفذيها إما ذكرا تأثير رواية "حنق" عليهما، أو يملكان نسخة منها. عن هذا الأمر كتب كينغ "ذاك كان كافياً بالنسبة لي. فطلبت من ناشري أن يسحب الرواية من التداول، وهذا ما فعله، على الرغم من أن ذلك لم يكن سهلاً". وفي مقالة تأملية فكرية عنوانها "أسلحة" Gunsأ، نشرها كينغ سنة 2013 عن عنف السلاح في الولايات المتحدة، ذكر الكاتب الأميركي "تطلب الأمر أكثر من مجرد رواية صغيرة" كي يقوم المرتكبون بتنفيذ هجوماتهم. كما تناول كينغ في المقالة عوامل أخرى في هذا السياق، مثل سهولة الحصول على أسلحة في الولايات المتحدة. وعن منفذي الهجمات (في المدارس) كتب كينغ "لقد وجدوا شيئاً في كتابي خاطبهم، لأنهم في الأصل مكسورون. بيد أنني أرى (كتاب) "حنق" Rage محفزاً محتملاً، وهذا ما دعاني إلى وقف بيعه وسحبه من التداول".
وكينغ في هذا الإطار ليس الكاتب الوحيد الذي كان عليه أن يشغل نفسه بالاحتمالات المؤدية إلى العنف في المدارس، إذ عندما قامت الكاتبة ليونيل شرايفر بإرسال المخطوطة التي ستصبح في حين بعد أفضل كتبها من حيث المبيعات، المعنونة "علينا التحدث بخصوص كيفين" We Need To Talk About Kevin، والتي تروي قصة مجزرة مدرسية متخيلة، فإن "وكيلها المتجاوب في العادة اختفى طيلة أسابيع". وروت شرايفر المسألة في حين بعد بمقالة في صحيفة "الغارديان"، فكتبت "توقيتي كان في منتهى السوء. تقدمت بمخطوطتي النهائية لوكيلي الأدبي في نيويورك بعد أحداث 9 سبتمبر مباشرة، خلال تلك البرهة الصغيرة حين ظن الجميع أن الأميركيين لن يقرؤوا أو يشاهدوا أبداً بعد اليوم أشياء عنيفة". وحين قام وكيل شرايفر أخيراً بالتواصل معها، وفق ما روت، بدا مرتبكاً تجاه تحديد موقع كتابها الجديد ضمن سوق المنشورات، وكان "قلقاً من أن تسهم قصة الكتاب بوقوع أعمال قتل مستوحاة منها"، لكن حتى يومنا هذا فإن تلك المخاوف بدت غير موجودة بالفعل. فالكتاب، كما الفيلم الذي استند إليه، لم يجر ربطهما بأي أحداث عنف محددة (قامت شرايفر أخيراً بإرسال مخطوطتها مباشرة إلى دار نشر صغيرة، والأخيرة قبلتها).
ابحثوا عن "كتب ألهمت جرائم قتل"، وسيثب بين "حنق" و"يوميات تيرنير" عنوان آخر مألوف، إذ إننا لا ننسى ربط جريمة قتل جون لينون، سنة 1980، بـ"الفزاعة في حقل الشوفان" The Catcher in the Rye، كتاب جي دي سالنجر الصادر سنة 1951، والمنضم إلى كلاسيكيات الأدب. فقد كان بحوزة مارك تشابمان، قاتل النجم لينون، نسخة من الرواية حين جرى اعتقاله. وبحسب ما ورد في مقالة نشرتها "نيويورك تايمز" قبيل محاكمة تشابمان، فإن الأخير أصر على تأكيد تأثير الرواية على نفسيته، مدعياً أن قراءتها قد "تساعد كثيرين في فهم ما حصل"، على أن وصمة هذه الرواية، بحسب كاتب سيرة سالنجر، كينيث سلاوينسكي، كانت كبيرة لدرجة تحولها بعد حادث مقتل لينون إلى "نكتة متواصلة – أو ربما نصف نكتة – تقول إنه إذا استقل المرء المترو، يمكنه أن يحمل نسخة من "الفزاعة في حقل الشوفان"، ويضعها على ركبته، فيضمن أن لا يزعجه أحد".
ومن الملحوظ وفق دراسة أجرتها جامعة كارنيغي ميلون Carnegie Mellon University ضمن "مشاريع الكتب المحظورة" Banned Books Projects، فقد كان هناك على الأقل تسع محاولات لحظر الكتاب (الفزاعة) في مدارس أميركية متعددة بين عامي 1986 و2000، وتلك محاولات استندت إلى "استخدام الرواية إحالات نابية وجنسية"، أكثر من الاستناد إلى علاقتها بأعمال عنف في الحياة الواقعية.
مما لا شك فيه فإن "الفزاعة" لم تقتل لينون، تماماً كما لا تتحمل رواية "حنق" مسؤولية إطلاق النار في المدارس. وإلقاء المسؤولية على هذه الكتب تماثل لوم ألعاب الفيديو وبعض الأفلام أو موسيقى الروك، على أعمال عنف مختلفة. إنه زعم غير دقيق وصادم باختزاليته، لكن الأمر لا يلغي أهمية تناول بعض الكتب التي تقاطعت تواريخها مع أعمال عنف في حالات عديدة، وذاك التناول قد يسمح لهذه الكتب، ولعلاقاتنا معها، أن تعلمنا شيئاً عن أنفسنا.
ويكون الدرس الذي نتعلمه درساً مباشراً في بعض الأحيان. لنأخذ مثلاً "يوميات تيرنير". ليس صعباً على الإطلاق تخيل سبب إعجاب المتعصبين البيض بها. أما بالنسبة لـ"الفزاعة" فإن الأشياء تبقى أكثر غموضاً: في الظاهر حكاية هولدن كولفيلد، الفتى ابن الـ16 ربيعاً، المتسكع في مدينة نيويورك بعد طرده من المدرسة الإعدادية، ليست حكاية من الحكايات التي من شأنها أن تلهم هجوماً دامياً بالرصاص ضد شخص هو من أكبر نجوم العالم، بيد أن هذه الرواية عادت مرة أخرى وربطت بحدثين داميين لاحقين على الأقل، هما محاولة جون هينكلي جونيور اغتيال الرئيس رونالد ريغان سنة 1981 (وجدت نسخة من "الفزاعة في حقل الشوفان" بغرفة هينكلي الفندقية)، وجريمة قتل الممثلة ربيكا شايفر سنة 1989 على يد روبيرت جون باردو (الذي قال للشرطة إنه رمى نسخة من "الفزاعة" خلال هربه من مسرح الجريمة).
قرأت "الفزاعة في حقل الشوفان" بعمر الخامسة عشرة، وهو السن الأمثل لقراءتها. وكمراهقين كثيرين غيري، رأيت نفسي في هولدن، إذ إن إحساسه بالإقصاء، وبحثه وحيداً عن الصدق، لقيا أصداءهما في نفسي، لكن "الفزاعة" لم تثر عندي أي أحاسيس عنف. وأنا لم أعرف عن تشابمان وهينكلي وباردو إلا بعد مرور سنوات طويلة. ما الذي حصل إذن؟ ما الأشياء التي فاتتني ورآها أولئك الرجال في هولدن؟
الكاتبة جيس ماكهيو، مؤلفة الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان "أميريكانون" Americanon، وهو تاريخ الولايات المتحدة من خلال 13 كتاباً من الكتب الأكثر مبيعاً، قضت وقتاً في البحث بكيفية مساهمة الكتب في رسم ملامح عالمنا وهوياته. الكتب التي تستعرضها ماكهيو في "أميريكانون" تختلف في النبرة والأسلوب عن "يوميات تيرنير"، وحتى عن "الفزاعة في حقل الشوفان"، إذ إن المؤلفة تركز أكثر على كتب تبدو "غير مؤذية"، مثل "قاموس ويبستير" Webster، وكتاب بيتي كروكير "كتاب صور الطعام" Picture Cook Book.
الكتب الأكثر مبيعاً، وفق رأي ماكهيو، تؤدي دورها كـ"عناصر اختبار"، ومرآة للمجتمع يمكنها إظهار "بعض الجوانب المستترة من القلق والخوف والإجحاف"، الجوانب النفسية التي تتفاعل تزامناً مع نجاح تلك الكتب.
"الكتاب مثل كائن حي، ويكاد يكون مثل الطفل لوالديه"، تقول ماكهيو قبل أن تردف: "الكتاب يمضي كي يعيش حياته الخاصة. وفي بعض الأحيان يقوم القراء بالتأثير على حياة كتاب ما، أكثر مما يفعل مؤلفه حتى".
هذا ما حصل بالنسبة لـ"الفزاعة في حقل الشوفان"، وفق ما تقول، إذ إنه (الفزاعة) "خضع لهذا التحول البالغ في جموحه، حيث انتقل من أن يكون كتاباً ألفه ذاك الكاتب الثلاثيني غريب الطباع، إلى أن يغدو دليلاً، وكتاب تشغيل لمجموعة من الساخطين، ثم إنه الآن صار شيئاً مختلفاً تماماً. إنه محط كلام وتندر وطني، وهو طريق مختصر لفتية المدارس الإعدادية نحو "متلازمة التفرد الحاد"، فهو بحق قد مضى في سبيل حياته الخاصة، المنفصلة عن موقعه، وعن سالنجر نفسه".
تعليقات
إرسال تعليق