قد يطرح الكثيرون السؤال الوجودي الأكبر في عالم الاقتصاد: “لماذا نحتاج أصلاً إلى الاقتصاد؟” ما حجم الفاكهة التي وقعت على رأس المجرم الذي فكر في مجال البحث هذا؟ وفيما كان يفكر الذين ارتقوا بالاقتصاد إلى مرحلة العلم؟ في الحقيقة توجد إجابة واحدة على هذا السؤال: الندرة النسبية
ما هي الندرة النسبية ؟
ببساطة وباستقراء بسيط، فقد اتفق أغلب المختصون أن هناك اختلالاً في توازن حاجات ورغبات الناس نسبة إلى مواردهم الاقتصادية؛ فحاجات البشر ورغباتهم أكثر بكثير من الموارد التي توفرها الطبيعة والمجهود البشري، لذا فالموارد التي لدينا غير كافية لإشباع حاجيات ورغبات الجميع.
يمكن تبسيط الأمر من خلال المتراجعة التالية:
ما هي الموارد الاقتصادية؟
ببساطة يصبح مورد ما اقتصادياً عندما يصير نادراً بالمعنى الاقتصادي للكلمة، كيف ذلك؟
- أن يشبع حاجةً أو رغبةً
- أن يحتاج الحصول إليه إلى مجهود أو ثمن
- مثال آخر: هل سمعت بأن أحداً يبيع الرمال داخل قبيلة تعيش في الصحراء؟! طبعاً لا؛ فلا أحد سيدفع مالاً في شيء لا يحتاجه، أو يستطيع الوصول إليه بكل سهولة. لننتقل إذن إلى مدينة بعيدة قيد الإنشاء، هل تصبح الرمال في هذه الحالة مورداً اقتصاديا؟ بالطبع نعم، فالحاجة إليها مُلِّحة في مجال البناء، وهناك من سيحتاجها ولا يستطيع الوصول إليها بلا مقابل، لذا فببساطة ستتحول الرمال عديمة القيمة لدى القبيلة الصحراوية إلى مورد اقتصادي يُباع و يُشتَرى.
ما هو الفرق بين الحاجة والرغبة؟
الحاجة هو إحساس بالنقص تجاه شيءٍ يجب أن تتحصل عليه؛ لأنك لا تستطيع العيش بطريقة طبيعية بدونه؛ كالطعام مثلًا، فأنت تستطيع البقاء بدون طعام لمدة أيام، أو القيام بإضراب على الطعام لمدة تطول أكثر من ذلك، لكنك في نهاية الأمر يجب أن تأكل، لأن هذا الأمر ضروري لوجودك.
للحاجات أقسام متعددة وأشهر تقسيم لها هو تقسيم عالم النفس (Abraham) الذي طرحه في ورقته البحثية a theory of motivation ” ودشن بذلك ما يطلق عليه اليوم “التسلسل الهرمي للاحتياجات” ، حيث قَسَّم الاحتياجات البشرية إلى خمس أقسام مرتبة هرمياً بالشكل التالي، بحيث لا يجب إشباع نوع معين من الحاجات البشرية للانتقال إلى النوع التالي :
1- الاحتياجات الفسيولوجية، كالأكل والشرب …
2- احتياجات الأمان، كالسلامة الجسدية والأمن بمختلف أنواعه …
3- الاحتياجات الاجتماعية، كالصداقة والعلاقات الأُسَرية …
4- الحاجة للتقدير، كالثقة بالنفس واحترام الآخرين …
5- الحاجة لتحقيق الذات، كالإنجاز والابتكار …لكن هذه النظرية تعرضت لمراجعات وانتقادات عديدة منها:
- أن الترتيب الهرمي في هذه النظرية نسبي جداً باختلاف الأشخاص والحالات الاجتماعية؛ حيث أن النظرية لم تحدد حجم الإشباع اللازم لنوع من الحاجيات للمرور إلى النوع التالي
- إغفال أن الإنسان يمكنه إشباع العديد من الحاجيات في نفس الوقت
- إغفال النظرية للجانب الديني والروحي.
أما بالنسبة للرغبة فهي شعور نفسي بتمني الحصول على شيء ما، قد لا يكون ضرورياً، لكن يُعَدْ الحصول عليه محبباً إلى النفس.
إذن فالندرة النسبية هي سبب ظهور Economic ؟ تقريباً …
فإن ندرة مواردنا الاقتصادية تجبرنا على فعل شيء مقيت نكرهه جميعاً؛ وهو “الاختيار”، اختيار ماذا؟!
بما أننا لا نستطيع إشباع كل حاجاتنا ورغباتنا، فيجب علينا اختيار ماذا سنشبع، وما الذي سنتركه دون إشباع، هنا نجد أنفسنا أمام مواقف صعبة؛ يجب أن نشبع فيها الحاجات والرغبات التي لها أولوية بالنسبة لنا ، وأن نؤجل إشباع الأخرى، لذا فيجب دراسة الطريقة الأمثل لاختيار الكيفية الأفضل لاستعمال الموارد المتاحة في إشباع أكبر عدد ممكن من حاجاتنا ورغباتنا.
ملاحظة: حل مشكلة الاختيار هذه سيكون صعباً جداً إذا لم نتعرف على مفهوم تكلفة الفرصة البديلةهي ببساطة “تكلفة فرصة الاختيار”، بحيث أن توفرك على رفاهية الاختيار بين عدة بدائل له تكلفة، كيف ذلك؟
أنت الآن تقرأ هذا المقال منذ عدد لا بأس به من الدقائق، وذلك بمحض إرادتك وبكامل قواك العقلية (إن لم تكن من ضمن الذين أُجبرهم على قراءة مقالاتي بواسطة التهديد والابتزاز!)، وهذا يعتبر استعمالاً لأحد أهم مواردك الاقتصادية المحدودة وهو الوقت، حيث اعتبرت أن قراءة مقالي المتواضع هذا أفضل من قراءة بعض صفحات من روايتك المفضلة، والتي كانت أفضل البدائل لديك، فالوقت التي تقضيه الآن في قراءة هذا المقال كان يمكن أن تستخدمه في أي شيء آخر.
إذن فتكلفة الفرصة البديلة لقراءة هذا المقال هي: عدم استمتاعك بقراءة روايتك المفضلة الآن.على كل حال فإذا ضبطنا مفهوم النُدرة الذي يوضح حتمية تعاملنا مع معضلة الاختيار في تلك المرحلة؛ فهذا سيوصلنا لامحالة إلى طرح الأسئلة الثلاثة الآتية:
ماذا ننتج ؟ كيف ننتجه ؟ لمن ننتجه؟…هذه الأسئلة يجيب عنها الجميع دورياً
ففي أول كل شهر يقبض كل مواطن دخله (راتباً كان أم أرباح مشروع صغير …) والذي يمثل أحد أهم موارده الاقتصادية، المشكلة الآن هي أن راتبه غير قادر على إشباع كل حاجاته، فما بالك برغباته! هنا يجب عليه الاختيار بين الحاجات التي لها أولوية بالنسبة له.
وقد تجده بعد أن ارتفع ضغطه يفكر في الاستقالة من وظيفته (التي يبيع فيها جهده ليتم إنجاز علم بشري) أو يفكر في إعادة النظر في المنتجات التي يبيعها في دكانه الصغير بهدف زيادة دخله المادي.لكن ربما أن ما ينتجه ليس هو المشكلة، بل أن الكيفية التي يُنتج بها هي التي وضعته في هذا المأزق، فربما يجب عليه أن يغيرها، أو ربما يجب أن يغير مكان الدكان ليبحث عن زبائن أكثر يشترون كميات أكثر من منتجه، فلابد أن منتجاته جيدة جداً لكنه يبيعها للزبائن الخطأ، فالسؤال الأهم في هذه الحالة هو: لمن ننتج؟
نفس المشكلة تواجهها الحكومات، فالدول عادة لديها أيضاً موارد كالضرائب، وأرباح المشروعات القومية، والصادرات، لكن حاجات الشعوب ورغباتها كبيرة جداً، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشبعها كلها، لذا فالحكومة على رأس كل سنة تختار كم ستنفق على التعليم والصحة والبحث العلمي …
وهي بالطبع لن تستطيع حل كل هذه المشاكل بمواردها المحدودة، تلك هي المشكلة الاقتصادية!الحكومة أيضاً توجه الإنتاج بطرقها المعروفة، ويجب أن تختار بين مساندة الزراعة أو الصناعة أو قطاع الخدمات، لذا فأسئلة مثل ماذا ننتج؟ كيف ننتجه؟ مهمة جداً بالنسبة لكل حكومة.
سؤال مهم يجب أن تجيب عنه الحكومة أيضاً، ألا وهو “من يجب أن توجه إليه إنتاجها؟”، فلمن يجب أن تباع الحواسيب التي أنتجها المصنع المملوك للدولة؟ ولمن يجب أن توجه إليه الخدمات العامة التي تنتجها الدولة؟ الطبيعي أنها لن تستطيع خدمة الجميع، لكنها يجب أن تختار حسب أولوياتها.
هذه هي ببساطة وببعض التفصيل المشكلة الاقتصادية المسماة بالنُدرَة النسبية؛ إنها المشكلة التي يدور حولها الاقتصاد بكل فروعه، وفهمها واستيعابها جيداً سيكون أول خطوة في طريق فهمك لعالم الاقتصاد الممتع.
- ما هي تكلفة الفرصة البديلة؟
تعليقات
إرسال تعليق