ما أول شيء تفعله في الصباح فورا بعد أن تستيقظ؟ إذا كنت تُمثِّل الغالبية العظمى من الناس، فسيكون الأمر مُتعلِّقا بهاتفك الذكي، ستود أن تتعرَّف إلى آخر رسائل واتساب، إشعارات فيسبوك ورسائله، ربما ستهتم بذلك الشخص الذي شارك منشورك مع تعليق مميز، قد يتسبَّب ذلك في موجة من السعادة الآنية، لكنها لا تلبث أن تنتهي حينما ترى ذلك التعليق المُتنمِّر على منشور آخر لك، فتنقلب السعادة إلى غضب في لحظة واحدة
.يضرب الشخص المتوسط نحو 2600 نقرة على شاشة الهاتف الذكي كل يوم، تصل في الحالات الأكثر تطرُّفا إلى ضِعْف هذا الرقم تقريبا، ربما لا تتخيَّل أنك -في المتوسط- تلتقط هاتفك الذكي نحو 90 مرة في اليوم، لكي تتفحَّصه ربما لثواني ثم تُعيده، ففي عام 2017 قضى نحو ثلثَيْ سكان العالم مدة تبدأ من أربع ساعات وتتخطّى حاجز سبع ساعات على الهاتف الذكي في اليوم الواحد.
يتطوَّر الأمر في بعض الأحيان إلى ما هو أعمق من ذلك، حيث يُشير رهاب فقدان الهواتف الذكية"، وهو مفهوم معاصر لم يتحوَّل بعد إلى تشخيص سريري (مَرَضي)، إلى تلك الحالة التي يشعر فيها الشخص بعدم راحة حينما لا يتمكَّن من الوصول إلى هاتفه الذكي بانتظام، سواء حينما لا يكون الهاتف معه، أو حتى حينما لا يتمكَّن من الولوج بسهولة إلى الإنترنت، أو حينما يبدأ مؤشر البطارية في إطلاق إنذاراته. تظهر الأعراض الأكثر تطوُّرا حينما نتوتر بسبب انقطاع الشبكة للدرجة التي تجعل الواحد منا يتفحَّص وجودها كل دقيقة تقريبا!
يدفعنا ذلك -لا شك- للتساؤل عن أثر هذا الوافد الجديد إلى عالمنا على سلوكنا وممارستنا لحياتنا الطبيعية، وهل يمكن أن يتطوَّر اهتمامنا بالهواتف الذكية ليصبح إدمانا؟ بحسب إيرك بيبر وريتشارد هارفي من جامعة سان فرانسيسكو، فإن هناك ارتباطا بين الاستخدام المُفرِط للهواتف الذكية والأعراض الرئيسية لإدمان المواد المُخدِّرة، إلى درجة أن الاستخدام الزائد عن الحد للهاتف الذكي يصنع وصلات دماغية بالطريقة نفسها التي تصنعها مادة الأوكسيكونتين المُخدِّرة التي يتناولها بعض المرضى من أجل تخفيف الآلام تدريجيا.
وكما أن هناك نوعين من الطعام في حياتنا، الطعام الذي يُعوِّض احتياجنا اليومي إلى السعرات الحرارية، والطعام المالح أو المليء بالسكّريات الذي يمكن أن نستمر في أكله حتّى وإن كنّا في غير حاجه إليه، فقط لأنه شهي ويجذبنا، فإننا ننجذب للهواتف الذكية بسبب تلك المُحفِّزات الضوئية والصوتية الشهية التي تُشبع لدينا غريزة أخرى مثل الجوع تماما، وهي غريزة التواصل. هناك قدر مناسب من التواصل -كما أن هناك قدرا مناسبا من الطعام- إذا تخطّيناه فسوف نتحوَّل إلى مدمني تواصل عبر الهواتف الذكية كما نصبح مدمني طعام، وكلاهما ضار بالصحة.
تأمَّل مثلا وضع الإمساك بالهاتف الذكي الذي نتَّخذه دائما، حينما نضم كتفَيْنا ونثني رأسنا للأسفل ونرفع يدينا قُرابة وجهنا، هذا ليس طبيعيا، لم تُصمَّم أجسامنا لاتخاذ هذا الوضع المُتوتِّر، لكننا نفعل ذلك رغما عنّا ونستمر فيه لساعات، هل يمكن أن نُعرِّف ذلك على أنه إدمان حقيقي؟ من ناحية طبية، لا يمكن لنا تعريف إدمان الهواتف الذكية كما نُعرِّف إدمان الهيروين على سبيل المثال، لكنه لا شك حالة نصبح خلالها مجذوبين، بشكل يبدو قهريا، ناحية فعل شيء ما لم يكن من الطبيعي أن نفعله.
على جانب آخر، فإن الالتصاق بالهواتف الذكية يجعلنا أقل ارتباطا بالعالم لا شك؛ الأصدقاء، والعائلة، أو حتى زملاء العمل، وحياتنا الاجتماعية ليست -كما تظن- بالشيء الهيّن، إنه نمط حياة توارثته الأجيال سلوكيا، وبيولوجيا، خلال فترة وجودنا نحن البشر على هذا الكوكب التي ربما تتخطَّى حاجز 300 ألف سنة كاملة، لذلك فالحاجة إلى الانتماء إلى جماعة -عائلة كانت أو حتى مجموعة أصدقاء- والتفاعل معها ليست نوعا من الرفاهية، بل شرط رئيس لعيش حياة جيدة، عاطفيا وذهنيا.
أضف إلى ذلك أن وجودك وحيدا لفترات طويلة يتسبَّب في شعور عميق بالوحدة، وهو واحد من أهم العوامل التي قد تدفع شخصا ما لتطوير أفكار اكتئابيه، من جهة أخرى فإن هناك أسبابا عدة إضافية تُساعدنا على الشك في وجود تلك العلاقة بين الاكتئاب والاستخدام المُفرِط للهواتف الذكية، فبسبب تلك الهواتف، ينام المراهقون وقتا أقل من المعتاد، ويمتنعون عن ممارسة الكثير من النشاطات اليومية المفيدة لصحتهم الجسدية والعقلية.
يمكننا أن نستمر في الحديث عن الأضرار المُمكنة لإدمان الهواتف الذكية ولا نتوقَّف قبل أن نملأ كتابا كاملا، كما فعلت سوزان جرينفيلد بالفعل في كتابها "تغيُّر العقل"، الذي يتعرَّض بصورة نقدية لكل الوسائل الرقمية المعاصرة، لكن دعنا نتوقَّف قليلا عند تلك النقطة ونبحث عن فرصة في خضم هذه الفوضى: هل يمكن بالفعل أن نتوقَّف عن هذا الإدمان المعاصر؟ هل سيأتي يوم ننقطع فيه عن عادة التجوُّل في الصفحة الرئيسية بلا هدف وكأننا مجبولون على ذلك؟
يبدأ الأمر من تحقيق إدراك كافٍ للمشكلة، حيث لا يعرف الكثيرون عدد المرات التي يتفقَّدون فيها هاتفهم الذكي، لقد أصبح الأمر طبيعيا ومُكرَّرا بحيث بات يحدث بلا وعي تقريبا، في تلك النقطة يمكن أن تبدأ باستخدام أيٍّ من التطبيقات التي تسمح لك بمعرفة عدد المرات التي فتحت فيها الهاتف الذكي الخاص بك يوميا. "تشيكي" (Checky) مثلا سوف يساعدك -بداية- في تقدير حجم المشكلة، التي تعرف بالفعل أنها موجودة.
يمكن لمجموعة تطبيقات أخرى أن تُعطيك فرصة أفضل لفهم علاقتك الأكثر عمقا بالهاتف الذكي، فمثلا يمكن لـ "Quality Time" أن يحسب عدد الساعات اليومي الذي تقضيه على هاتفك الذكي، وأن يُعطيك إحصاءات حول ساعات ذروة الاستخدام الخاصة بك، والتطبيقات التي تُدمنها أكثر من غيرها، كما يمكن أن تستخدم تلك التطبيقات لأخذ فترة من الزمن، تُحدِّدها أنت، بعيدا عن هاتفك الذكي. سيُعطيك ذلك فرصة أفضل للتحكُّم، خاصة لو كنت مُفرطا في استخدام الهاتف، لكن لا تقع في فخ جمع تطبيقات الابتعاد عن الهواتف الذكية، فقط تطبيق واحد يكفي.
هل يهم حقا أن تتبَّع كل إشعار على تويتر أو فيسبوك أو إنستغرام؟ ربما يكون من الضروري أن تتعرَّف إلى وارد بريد "غوغل" لأنه يتعلَّق بالعمل، لكن وسائل التواصل الاجتماعي ليست بتلك الأهمية، لذلك فإن العمل على إغلاق أكبر قدر ممكن من الإشعارات القادمة من هاتفك الذكي هو لا شك آلية فعَّالة، ضَعْ تلك الإشعارات على الوضع "صامت"، وتفقَّد هاتفك -إن أردت- كل نصف ساعة بحدٍّ أقصى، لكن يمكن أن تبدأ تلك الخطة بالتدريج (كل 15 دقيقة مثلا).
إحدى الآليات الفعَّالة للتعامل مع إدمان الهواتف الذكية، وعالم التواصل بالعموم، هو حصر استخدامه ضمن نطاقات مُعيَّنة، بمعنى أكثر وضوحا: امنعْ نفسك من الوصول إلى الهاتف الذكي في حالات بعينها، كالخروج لشراء بعض المستلزمات المنزلية، أو في حالة وجود ضيوف أو أقارب، أو في أثناء الجلوس مع أصدقائك، أو في أثناء الطعام، وبالطبع ننصح أن تضعه خارج الحجرة تماما في أثناء استذكار الدروس، أو القراءة في أحد الكتب، فترة لا تقل عن نصف ساعة.
إحدى أهم تبعات استخدام الهواتف الذكية هي أنها تُجبرنا على السهر، تلك الأضواء اللامعة والأصوات المُمتعة تستثير انتباهك، فيحين موعد نومك لكن دماغك لا يستجيب لذلك، تُشير إحدى الدراسات إلى أن معدل نوم المراهقين أصبح 7 ساعات فقط في اليوم بسبب الهواتف الذكية. لذلك يجب أن تُنهي اليوم الفائت وتبدأ اليوم الجديد بدون الهواتف الذكية، ضَعْه في الحجرة المجاورة قبل الدخول للنوم، واستيقظ من نومك بعد ثماني ساعات، مارِس أنشطتك الصباحية لمدة قصيرة، ثم تصفَّح هاتفك الذكي إنْ أردت.
كل تطبيق إضافي على الهاتف الذكي هو مصدر إثارة غير ضروري لانتباهك، يستخدم الشخص العادي في المتوسط 40 تطبيقا شهريا، ويحتوي هاتفه على 80 تطبيقا، أنت بحاجة من حين إلى آخر إلى تأمُّل تطبيقاتك على الهاتف الذكي، أزِلْ كل ما لا تراه مفيدا أو تلك التطبيقات التي لم تستخدمها من فترة، وأحِطْ نفسك قدر الإمكان بالتطبيقات التعليمية أو المفيدة في العمل، في النهاية لا حاجة لك في معرفة الخبر لحظة وقوعه إلا إذا كنت رئيس دولة مثلا، خذْ وقتك في تنظيم تطبيقاتك وتأمَّل أهميتها بالنسبة لك.
ليكن حاضرا في ذهنك قدر الإمكان أنه لا ذهاب إلى الهاتف الذكي إلا بمهمة محددة، كأن تستخدمه مثلا للبحث عن معلومة محددة، أو لفحص رسائل غوغل من رئيسك في العمل، أو لأنك تنتظر رسالة من زوجتك التي وصلت قبل قليل إلى وجهتها في المدينة المجاورة عند الأقارب، إن ذلك المفهوم المُضلِّل الذي يُسمَّى "تعدُّد المهام" هو إحدى الخدع التي يمكن لهاتفك الذكي أن يسرق وقتك من خلالها. دائما جهِّزْ مهمة واحدة في الوقت نفسه، أما إذا وجدت أنك لا تقدر على ذلك بسبب تطبيقات وسائل التواصل، فقُمْ بحذفها من الهاتف وتابعها على الحاسوب، لأنك لا تحمله في يديك دائما.
أحد الأخطاء التي نقع فيها هي تصوُّر أن الوقت الذي نقضيه على الهاتف الذكي يختلف عن ذلك الذي نقضيه مع التلفاز أو مع الحاسوب أو مع أية شاشة أخرى، هنا يجب أن تعلم أن المشكلة الأساسية هي أن تقوم الشاشة، أية شاشة، بسحبك من أرض الواقع إلى عالم افتراضي لا يُغذِّي احتياجات دماغك وعواطفك الأساسية للتواصل الاجتماعي الحقيقي والتعلُّم، حينما تقوم بحساب "الوقت الضائع" الذي تقضيه يوميا مع الشاشات المختلفة ستُدهشك النتيجة، حيث يقضي الناس 10 ساعات يوميا في المتوسط أمام الشاشات، وهو رقم مرعب حقا.
لا بد أنك قد سمعت تلك النصيحة كثيرا: لكي تتخلَّص من عادة يمكن أن تستبدلها بأخرى، إذا أردت القراءة مثلا ضَعْ كتبا في أنحاء المنزل، خاصة في الأماكن التي عادة ما تجلس فيها، إذا كنت تأخذ الهاتف لدورة المياه خُذْ كتابا بدلا من ذلك، ضَعْه على الأريكة المحببة لك، وبجوار السرير كي تقرأ قبل النوم، استغل الوقت الإضافي للخروج والمشي دون هاتف إذا أمكن، العادات الصحية ترتبط معا كشبكة واحدة، ما إنْ تُمسك بأحد أطرافها حتّى تدخل إلى عالمها كاملا.
الهواتف الذكية ابتكار عظيم، وهي تُعزِّز حقا من قدرتنا على الوصول إلى كمٍّ هائل من المعلومات في لحظات قصيرة، محاضرات مجانية في أرقى الجامعات والمؤسسات البحثية كنت لتضطر إلى تحمُّل تكاليف سفر باهظة للوصول إليها، كتب وأبحاث علمية ومجلات عامة ومتخصصة كان يجب، يوما ما، أن تنتظر أسابيع طويلة حتّى تصلك إلى المنزل، أصبح بإمكانك اليوم أن تحصل عليها بضغطة زر.
لذلك فإن محاولاتنا للتحكُّم في هوسنا بالهواتف هي محاولات للانغماس بطريقة صحية في الحقبة الرقمية لكن دون أن نفقد انتباهنا، دون أن نفقد قدراتنا نحن البشر على الفصل ما بين الغث والسمين، هي أيضا محاولة منا للاحتفاظ بدرجة من الإنسانية، وقدر -ولو يسير- من إدراكنا لذواتنا، وما نريده حقا. في النهاية فإن الطريق للتخلُّص من إدمان الهاتف الذكي صعب، ومُرهِق، بالضبط كما أن الحميات الغذائية صعبة ومُرهِقة، لكن النتائج تستحق.
المصدر : الجزيرة
تعليقات
إرسال تعليق